النداء الاخير …شريف القناوى

النداء الاخير …

اصوات تتعالى وتتزاحم لكنها فجأة تصمت لتسمع النداء الاخير للرحلة التالية المغادرة طائراتها ، يتحرك مسرعا كل من كان دوره فى الرحيل وتعاود الأصوات تتعالى بالأحاديث بين باقى المنتظرين ، اجلس بعيدا عن الجميع انظر فى الساعة والى لوحة المواعيد سوف انتظر كثيرا لأسمع النداء إلى معياد رحلتى فهى لم تصل فى الأساس ، ما عدت اسمع كل الهمس والأحاديث التى يتجاذب أطرافها الركاب للقضاء على ملل الانتظار ، لكن تفكيرى تشغله الأفكار وتتراكم عليه الاحزان والهموم تتصارع بداخله تخطفه عن الواقع من حوله ،ارى اشباح تتحرك من حولى ، كلام يعبر دون أن اسمعه حتى وإن حاول من حولى جذب أطراف الحديث معى ، لا يجد سوى عين تنظر بملامح جامدة ولسان عاجز عن الكلام ، لم أكن يوما هكذا سافرت كثيرا وجلست اوقات طويلة فى صالات الانتظار لكن كنت اتركها بذكريات جميلة وقصص تروى لايام وايام ، كنت اعشق السفر واجمل ما فيه تلك اللحظات التى تتعرف فيها على من حولك وتتجاذب خيوط لا تنتهى من القصص والحكايات وضحك لا تود أن ينتهى ابدا فهى تهون لحظات الفراق ودوما يقطعها صوت يتردد صداه فى كل مكان ” هذا هو النداء الاخير للرحلة المتجهة إلى …… ” وحينها يتحرك من يتحرك ويجلس من جديد من ينتظر ، دائرة لا تنتهى لكنى كنت احبها جدا حتى ياتى دورى واغادر واترك خلفى لحظات لا تنسى ..

كيف مات بداخلى هذا الشعور …؟ وكيف وصلت لهنا ….؟ قرار صعب انها تكون الرحلة الأخيرة رحلة اتجاه واحد ،ذهاب بلا عودة ، ايام من التفكير دون نوم أنهكت قوتى ،حتى تمكنت من نفسى وتغلبت عليها لأجد الشجاعة الضائعة منذ وقت لارحل فى هدوء ، تاركا خلفى أحلاما فى منتصف الطريق تاهت منى وصارت مجرد أوهام .

صوت من بعيد يشدنى إلى الواقع يهز كتفى برفق كأنه يعلم أن جسدى الموجود لكن عقلى فى مكان آخر ..

وجدته يسالنى دون مقدمات .. من انت…؟ واين صديقى حاتم .. وقال مكملا بلهجته البسيطة (( اللى كل الناس تتمنى تكون فى الرحلة معاه، عارفك من عشر سنين ، وعمرى ما شفتك بالحالة دى ، انت ساكت ولا نسيتينى علشان بقالنا تلت سنين مش اتقبلنا ، أنا مدحت التهامى . معقول ساكت وعنيك فيها كل الحزن ده ، كام مرة قعدنا هنا نحكى ونضحك )) ، انظر إليه ولا اعلم اذا كنت فعلا أراه أو اسمعه لكن وجدت عقلى يتمسك به ويجبر لسانى على الحديث وان ينطق بعد صراع معه ” انتظر .. اجلس .. اود الحديث معك فقد لا نلتقى مرة أخرى “.

رايت على ملامحه رسمت كل ألوان التعجب والحيرة وجلس امامى ونظرات تحمل أسئلة أولها كيف تغيرت ونبرة اليأس تخرج من صدر كان بستان به كل زهور الحياة .

قبل أن يبدء ويسأل قاطعته .. اسمعنى صديقى .. اسمعنى مرة أخرى لكنها مختلفة عن كل مرة .. اسمع دون أن تقاطع .. سوف احكى للمرة الأولى والأخيرة لكلمات ظلت حبيسة فى سجن صدرى تضغط على قلبى ، لكن اليوم ستخرج من ظلمة السجن إلى نور الحرية …

اسمعنى …. من البداية لكن لا تمل فالوقت طويل حتى النداء

للرحلة الأخيرة …..

منذ سنوات طويلة كافحت ظروف لم اختارها بيدى لكن فرضتها الحياة على ايامى ، لكن كنت احلم بطريق رسمته لنفسى قررت أن أسير فيه مهما يحدث ، ولدت والثقة تؤامى الذى لا يفارقنى فى اى مكان أو زمان ..

اثق أن كل ما يحدث لسبب ما ، قد لا أعلمه فى حينه لكن دوما يكون الخير فى نهايته ، لن ابدء من الطفولة أو شباب مر سريعا من ايام مرها أكثر من حلوها ،لكنها كانت تمر وتترك تجارب اتعلم منها وتكون الدافع للاستمرار بثقة أكبر ان الغد قادم واحلامى تتحقق ….

البداية هنا فى مكتبى الذى حفرت الصخر لاصل إليه ،اقف أمام المكتب أتأمل الاسم “” حاتم المصرى – مدير إدارة التسويق وتطوير الأعمال “” فى أكبر شركات السياحة ، منصب تنافس عليه الكثير والوصول إليه طموح وحلم لكنى بالصبر و التعب والكثير من العرق اقف أمامه الان ..

(( ايوه يا عم محدش كدك اليوم ولا نقولك يا ريس خلاص انت عديت ومن بكرة مش نعرف نكلمك)) قطع تاملى بكلامه البسيط الخفيف صديقى منذ أن دخلت هذه الشركة ..أسامة الصعيدى .. الرجولة تجسدت فيه والشهامة والاكثر من ذلك دمه الخفيف والإبتسامة التى تفارقه ابدا ، وقبل أن انطق بكلمة جلس بسرعة على كرسى المكتب وأكمل كلامه (( اهو اجربه قبلك تصدق لايق عليا اكتر منك مش احنا من سن بعض ودخلنا الشركة مع بعض وانا قعدت عليه قدامك يبقى ايه اللى سبق اكل النبق )) كم احب أسلوبه البسيط فى الحياة وتعلمت منه الكثير ، نظرت إليه بابتسامة وضحكة من القلب خرجت بصوت عالى ترج صمت المكان .

وفجأة بدأت لون اسود يملئ المكان والنور يخفت تدريجيا وانطفئ النور وساد السواد عينى ،ولا اتذكر ما حدث بعدها ،فتحت عينى بصعوبة أجد نفسى على سرير بمستشفى وأجهزة تملئ كل مكان فى جسدى النحيل ، لقد انهكته بالعمل والسهر ولم يشتكى يوما ظل صامدا يحارب معى ، لقد ظلمته معى كثيرا كان يحتاج للراحة على فترات لكنه لم يكن ضمن الخطط المرسومة ، لا تقلق بعد أن حققنا الكثير والكثير حان الوقت لتنال قسط من الراحة …

..”حمد لله بالسلامة ” نطقها الدكتور وهو ينظر إلى بتعجب ولم افهم معنى تلك النظرات ، ولم انتظر أن يتحدث بادرته متسائلا عن حالتى ..

..صمت قليلا ” انت عارف من امتى هنا .؟ انت كنت فى غيبوبة لمدة شهر ” لم اصدق ما اسمعه وشاهد الدهشة على وجهى والكثير من الأسئلة قفزت إلى عقلى تبحث عن أجوبة.

جلس بجوارى الدكتور كأنه قرأ افكارى …

.. اسمعنى لازم اكون معاك صريح ، حالتك الصراحة فيها بداية علاج ، والثقة والصبر مطلوبين مع باقى العلاج ، انت عندك ورم فى المخ ، اكيد كان فى أعراض بس انت أهملت نفسك ، انت سنك ٣٥ سنة ميزة مع عزيمة وإصرار وصبر على العلاج ممكن يكون فى امل انك تشفى منه ..

كلمات كانت كالرصاص تخترق صدرى وتستقر بقلبى ، انظر إليه فى صمت كأن الكلمات انتهت ولم اجد ما انطق به ، اعيش وحيدا كل ما يهمنى كان عملى واصدقائى و حبيبتى ” التى تعرفت عليها فى الشركة منذ ٣ سنوات طيبة القلب من أسرة بسيطة ومخطوبين من ستة أشهر ” هم سندى فى الماضى والحاضر وكلى ثقة انهم اليد التى تشد يدى حتى اقف من جديد واعود كما كنت نكمل الطريق والأحلام .

تمر الايام ثقيلة بطيئة فى المستشفى ،بين رائحة الأدوية والم الحقن التى مات ثقوبها جسدى ، مر اسبوع او اكثر لا اتذكر فقد توقفت عن العد والانتظار ، الغريب أنه لم ياتى أحد لزيارتى نهائيا ، تخيلت فى البداية أنه ممنوع الزيارة لكن حينما سالت تعجبت أن الزيارة متاحة ، اين الجميع ممنوع من الاتصال بالمحمول فى الوقت الحالى ، بدأت التمس كل يوم لهم عذر بعد عذر حتى انتهت فى عقلى الأعذار ..

بعد مرور أسبوعين من عودتى من الغيبوبة ، اخيرا حان وقت الخروج حتى ارى الشمس من جديد واستنشق الهواء النقي حتى يمتلئ صدرى به ، لكن القادم اصعب احتاج علاج كبماوى على فترات متقاربة ، لا يقلقنى أن يتغير شكلى ، لكن ما يقلقنى اين اختفى الجميع ، خرجت ابحث عن الإجابة قبل أن اعود الى البيت أو افكر كيف سوف استكمل العلاج ، قد تكون الثقة فى أن ما اصابنى لسبب لا أعلمه حاليا وان لكل قوى هناك الاقوى منه ، وفى النهاية كلنا ضعفاء أمام قوة الخالق سبحانه ، هذا بالتأكيد درس لن انساه كنت اتخيل انى صحتى قوة لا تنتهى ،وآلة تعمل ليل نهار المرض مهما كان حجمه يكشف مدى ضعفنا والاهمال فى حياتنا .

وصلت إلى باب الشركة الذى كثيرا دخلت منه وكلى نشاط وحماس ، ارى فى العيون نظرة عطف وشفقة يحاول الجميع أن يخفيها ،ونظرات أخرى لا افهم معناها حتى وصلت إلى باب مكتبى أو ما كان مكتبى ، علمت أن صديقى فى رحلة الكفاح استغل الظروف وحصل على مكانى طلبت مقابلته ،اعتذر اليوم كله لديه اجتماعات ، أمسكت قلم وكتب على ورقة “” السلطة قوة لابد أن تخاف منها لانها تصنع الغرور ومهما كانت قوتك فهناك الاقوى دون شك ، واليوم هنا والغد ضعيف لا حول ولا قوة لديك “” طلبت أن تسلم له فور مغادرتى ، لم يعد لى مكان قد استغنى العمل الذى منحته اغلى ما املك من صحة ووقت ، وجد غيرى يهبه الكثير هى دائرة ولن تتوقف …

لم يتبقى لى سواها حبيبتى التى رسمت طريقها جنب إلى جنب لطريقى ، هى النسمة التى امدتنى بالقوة على الاستمرار وركوب أمواج الحياة ، كلما كنت أشعر بالضعف ،اتكلم معها كانت ترى بقلبها كل ما يشغل ايامى ، هى البراءة والصدق ،تعلمت معانى الحب من أجلها ، الحافز للاستمرار وأنى اكمل المشوار ، لكن أين هى مكتبها مغلق والكل يتهرب من سؤالى عنها ، اخيرا وجدت الإجابة ، رحلت عن الشركة بعد تزوجت من رجل اعمال معروف ، باعت الحب من أجل قوة المال ، القوة التى يبحث عنها الكثير و يسعى خلفها العديد ، قوة ترسم لمالكها أنه المسيطر ،يشترى ما يريد وقت ما يريد ، يرافقها احيانا الكبر والغرور ، لكنها قوة أيضا لا تدوم , لها وقتها وان طالت لسنوات لا تعد .

لا أنكر وقتها ضاقت الدنيا فى عينى وصارت كحبل المشنقة معلق حول رقبتى وانا اتخبط فى الهواء ، أزمة صحية مفاجأة فى اقل من شهرين كشفت زيف مسرحية كنت البطل فيها ، الكل يسعى خلف قوة بكل جهد ، أمنيته أن يتخلص من البطل ويصير دور البطوله له وحده دون شريك .

بعد فترة من التفكير وجدت قوتى فى الإرادة الحياة ، أن احارب من أجل البقاء ، احارب خصم لا أراه يدمر فى عقلى فى كل لحظة ، قاومت بكل ما املك من ثقة وان هذا مجرد امتحان ، أدواته الصبر والإصرار والثقة أن القادم سوف تنتهى الغيوم وترحل وتترك للشمس السماء ، بعد علاج سنتان انتصرت على نفسى قبل المرض ، تعلمت أن القوة ليست المال أو السلطة أو الحب أو ….. أو ….

لكن اتعلم القوة الحقيقة انك تعلم حقا انك ضعيف مهما بلغت قوتك وان تحكمت بك ، سوف تكون الخاسر ولا احد غيرك …. لا احد غيرك …

اعذرنى صديقى هذا هو النداء لرحلتى ، سوف ابدء هناك حلمى من جديد لكنى تعلمت درس لا يمكن أن انساه ….

شريف القناوى

قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏تحتوي على النص '‏قصی_قید التدام الاخير Rinstnet شريف القناوي (فاحة) القناوی 心装‏'‏‏

كل التفاعلات:

١١

أضف تعليق